فصل: تفسير الآيات رقم (117- 118)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏التائبون‏)‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ هم التائبون، أو مبتدأ حُذف خبره، أي‏:‏ التائبون في الجنة وإن لم يجاهدوا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏، أو خبره ما بعده، أي‏:‏ التائبون عن الكفر، على الحقيقة، وهم الجامعون لهذه الخصال‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ في وصف البائعين أنفسهم وأموالهم‏:‏ هم ‏{‏التائبُون‏}‏ عن الكفر والمعاصي والهفوات والغفلات، ‏{‏العابدون‏}‏ لله، مخلصين له الدين، ‏{‏الحامدون‏}‏ لله في السراء والضراء وعلى كل حال، ‏{‏السائحون‏}‏ أي‏:‏ الصائمون، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «سِيَاحَةُ أُمتي الصوم» شبه بها من حيث إنه يعوق عن الشهوات، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملكوت والجبروت‏.‏ أو السائحون للجهاد، أو لطلب العلم، أو لزيادة المشايخ والإخوان‏.‏

‏{‏الراكعون الساجدُون‏}‏ في الصلاة، ‏{‏الآمرون بالمعروف‏}‏ أي‏:‏ بكل ما هو معروف محمود، كالإيمان والطاعة، ‏{‏والناهُون عن المنكر‏}‏ أي‏:‏ كل ما هو منكر في الشرع، كالكفر والمعاصي، ‏{‏والحافظون لحدود الله‏}‏ أي‏:‏ لكل ما حده الشارع وعينه من الحقائق والشرائع‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وعطف قوله‏:‏ ‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ دون ما قبله؛ للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، كأنه قال‏:‏ الجامعون بين الوصفين، وعطف أيضاً قوله‏:‏ ‏{‏والحافظون لحدود الله‏}‏؛ للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل، وهذا مجملها، وقيل‏:‏ للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع، من حيث إن السبعة هو العدد التام، والثامن ابتداء لعدد آخر معطوف عليه، ولذلك سمى واو الثمانية‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى‏.‏

‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ الموصوفين بهذه الفضائل، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم؛ للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، كأنه قيل‏:‏ وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ قد جمعت هذه الآية معارج الترقي من البداية إلى النهاية، فأول المقامات‏:‏ التوبة، فإذا تابت النفس ورجعت عن هواها قصدت السير إلى حضرة مولاها، فاشتغلت بالعبادة الظاهرة، التي هي عمل الشريعة، فإذا ظهر عليها أمارات التوفيق، ولاحت لها أنوار التحقيق، حمدت الله وشكرته؛ تقييداً لتلك النعمة، ثم تسيح فكرتها في ميادين الغيوب من الملكوت إلى الجبروت، ثم ترد إلى مراسم الشريعة، إذ منتهى الكمال‏:‏ التزام الشرائع، فتركع وتسجد البشرية، أدباً في عالم الأشباح، ويركع القلب ويسجد في مسجد الحضرة في عالم الأرواح، فحينئذٍ تصلح للوعظ والتذكير، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر الظاهريْن؛ لأهل التشريع، والباطنيْن؛ لأهل التحقيق، فالأول يسمى وعظاً وتذكيراً، والثاني يسمى تربية وترقية، ولا يقبل ذلك إلا ممن وقف مع الحدود، ووفى بالعهود، فيبشر حينئذٍ بالسعادة العظمى والمقام الأسنا‏.‏

قال القشيري‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏السائحون‏}‏ أي‏:‏ الصائمون، ولكن عن شهود غير الله، المُمْتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله، ويقال‏:‏ السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الأعتبار؛ طلباً للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغربها؛ بالتفكر في جوانبها ومناكبها، والاستبدال بتغيُّرها على مُنْشِئتها، والتحقق بحِكَم خالقها بما يَرَوْنَ من الآيات التي فيها، ويسيحون بأسراهم في الملكوت، فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ؛ بالتحقيق بشهود الحق‏.‏

انتهى

وانظر الورتجبي؛ فقد جعل وصف الإيمان يحمل على التوبة، ثم التوبة الصادقة تستدعي العبادات والمجاهدات المؤدية للعبودية، فإذا تمت له نعمة للعبودية اقتضت حمد الله تعالى، فيحمده تعالى معترفاً بعجزه عن القيام بحمده؛ كما في حديث‏:‏ «أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نَفسِك» ثم الحمد والذكر يقتضي حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين حِمَى هلال جماله في سماء الإيقان‏.‏ ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «صُومُوا لِرؤْيِتِهِ» ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله‏:‏ «وأفطِرُوا لرُؤْيَتِهِ» فالسائحون طيارون بقلوبهم في أقطار الغيب، وذلك يقتضي الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة، فيركع شوقاً لجماله، وخضوعاً لجلاله، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات، فيسجد لكل الجهات؛ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ وهذا السجود يقتضي الغربة، والغربة تقتضي المشاهدة، والمشاهدةُ تصير شاهدها متصفاً بصفاتها، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته صار متصفاً بوصف الربوبية، متمكناً في العبودية، فيحكم بحكم الله، ويعدل بعدل الله، فيصفهم الله بهذه النعوت، قال‏:‏ ‏(‏الآمرون بالمعروف‏)‏ الداعون الخلق إلى الحق، والناهون لهم عن متابعة الشهواتِ، والحافظون لحدود الله، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم، فلا يتجاوزون عن حد العبودية، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية؛ لأنهم في محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلى الله عليه وسلم، مع كماله، قال‏:‏ «أنا العبد لا إله إلا الله»‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 114‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ ينبغي ‏{‏للنّبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ الذين ماتوا على الشرك، ‏{‏ولو كانوا أولي قُرْبَى‏}‏ أي‏:‏ من قرابتهم، ‏{‏من بعد ما تبيّنَ لهم أنهم أصحابُ الجحيم‏}‏؛ لموتهم على الشرك‏.‏ رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي طالب، لما حضرته الوفاة‏:‏ «قُل‏:‏» لا إله إلا الله، كلمة أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عند اللَّهِ «‏.‏ فأبى، فقال‏:‏» واللَّهِ لأستَغفِرَنَّ لَكَ مَا لَم أُنهَ عنك «فكان يستغفر له حتى نزلت الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأنه، فنزلت، وقيل‏:‏ إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم، فنزلت، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم؛ إذ لم يتحقق أنهم أصحاب الجحيم، فإنه طلب توفيقهم للإيمان‏.‏

ثم رفع إيهام النقض باستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر، فقال‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه‏}‏، وقيل‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم قال في شأن عمه‏:‏» لأ ستغفرن لك، كما استغفر إبراهيم لأبيه «فنزلت‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه‏}‏‏.‏ والموعدة التي وعدها إياه قوله‏:‏ ‏{‏لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏ أي‏:‏ لأطلبن المغفرة لك بالتوفيق للإيمان، فإنه يجب ما قبله‏.‏

والمعنى‏:‏ لا حجة لكم في استغفار إبراهيم لأبيه، فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم بقوله‏:‏ ‏{‏لأَستَغْفِرَنَّ لَكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ ‏{‏فلما تبيّنَ له أنه عدوٌ لله‏}‏؛ بأن مات على الكفر، أو أوحى إليه بأنه لن يؤمن، ‏{‏تبرأ منه‏}‏؛ بأن قطع استغفاره له، ‏{‏وإن إبراهيم لأواهٌ‏}‏ أي‏:‏ لكثير التأوه، وهو كناية عن فرط ترحمه، أو كثير الدعاء، أو مؤمن، أو فقيه، أو كثير الذكر لله، أو كثير التأوه من خوف الله، ‏{‏حليمٌ‏}‏؛ صبور على الأذى، والجملة‏:‏ لبيان ما حمله على الاستغفار‏.‏

الإشارة‏:‏ الشفاعة لا تكون فيمن تحقق غضب الله عليه، فإن ذلك من سوء الأدب، كالدعاء بالمحال، وأما من لم يتحقق غضبه عليه فالشفاعة فيه مرغب فيها‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏» اشفَعُوا تُؤجَروا «والاستغفار شفاعة‏.‏ وقد ورد في الخبر‏:‏» مَن استغفر للمؤمنين والمؤمنات خمساً وعِشرين مرة كتب من الأبدال «‏.‏

والشفقة مطلوبة، ما لم يظهر مراد الله من خلقه، فإن برز من عنصر القدرة شيء من القهريات، فالتسليم لمراده تعالى أحسن، فالله ارحم بعباده منك أيها الشفيق، وسيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 76‏]‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 116‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضل قوماً‏}‏؛ أي‏:‏ يسميهم ضلالاً، ويؤاخذهم مؤاخذتهم، ‏{‏بعد إذ هداهم‏}‏ للإسلام، ‏{‏حتى يُبين لهم ما يتقونَ‏}‏ أي‏:‏ حتى يُبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه، فإن خالفوا بعد البيان، أضلهم وآخذهم إن لم يتوبوا‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وكأنه بيان عذر الرسول في قوله لعمه‏:‏ «لأستغفرن لك، ولمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع»‏.‏ وقيل‏:‏ إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر، ولم يعلموا بالنسخ والمنع‏.‏ وفي الجملة‏:‏ دليل على أن الغافل غير مكلف‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن جزي‏:‏ نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تأنيساً لهم، أي‏:‏ ما كان الله ليؤاخذهم بذلك قبل أن يُبَيَّن لكم المنع من ذلك‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏إن الله بكل شيءٍ عليمٌ‏}‏؛ فيعلم أمرهم قبل النهي وبعده‏.‏

‏{‏إن الله له ملكُ السمواتِ والأرضِ‏}‏، يتصرف فيهما وفي ساكنهما كيف يشاء، ‏{‏يُحيي‏}‏ من يريد إبرازه لعالم الشهادة، ‏{‏ويميت‏}‏ من يريد رده لعالم الغيب، أو يحيي قلوباً بالإيمان والمعرفة، ويميت قلوباً بالكفر والغفلة‏.‏ ‏{‏وما لكم من دون الله من وليِّ ولا نصير‏}‏‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ لمَّا منعهم من الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري منهم رأساً، بيَّن لهم أن الله تعالى مالك كل موجود، ومتولي أمره والغالب عليه، ولا يتأنى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتوجهوا إليه ويتبرؤوا مما عداه، أمره حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ وما كان الله ليضل قوماً عن السير إلى حضرته، أو الترقي في العلوم والمعارف بعد الوصول، حتى يُبين لهم ما يتقون من سوء الأدب على لسان الشارع أو المشايخ، فإذا تبين لهم ذلك ثم ارتكبوه وأصروا عليه، أضلهم، وأتلفهم عن الوصول إلى حضرة قدسه، فإنَّ كل طاعة وحسن أدب يقرب من الحضرة، وكل معصية وسوء أدب يُبعد عن الحضرة، وقد قالوا‏:‏ من أساء الأدب على البساط، طُرد إلى الباب، ومن أساء الأدب في الباب، طُرد إلى سياسة الدواب‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 118‏]‏

‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ في «كاد» ضمير الشأن، ويرتفع بها قلوبُ‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏لقد تابَ الله على النبي‏}‏ أي‏:‏ برأه وطهره من الذنوب، كقوله‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّر‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏و‏}‏ تاب على ‏{‏المهاجرين والأنصار‏}‏ مما عسى أن يكون ارتكبوه؛ إذ لا يخلو العبد من ذنب أو عيب‏.‏ وقيل‏:‏ هو حض على التوبة، وإظهار لفضلها، بأنها مقام الأنبياء والصالحين، وقيل‏:‏ تاب عليهم من نقص المقامات التي ترقوا عنها، إلى ما هو أكمل منها، فما من أحد إلا وله مقام يستنقص بالنسبة إلى ما فوقه‏.‏

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه‏:‏ ذكر توبة من لم يذنب؛ لئلا يستوحش من أذنب، لأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين والأنصار، ولم يذنبوا، ثم قال‏:‏ ‏{‏وعلى الثلاثة الذين خُلفوا‏}‏، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب، فلو قال أولاً‏:‏ لقد تاب على الثلاثة لتفطرت أكبادهم‏.‏ ه‏.‏

ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين اتبعوه في ساعة العُسرةِ‏}‏، يعني‏:‏ حين محاولة غزوة تبوك‏.‏ والساعة هنا بمعنى الحين والوقت‏.‏ والعسرة‏:‏ الشدة والضيق، أي‏:‏ الذين خرجوا معه وقت العسرة والضيق، فقد كانوا في عسرة الظهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة الزاد؛ حتى قيل‏:‏ إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة واحدة‏.‏ ‏{‏من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم‏}‏ عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لما رأوا من الشدة والضيق وشدة الحر، ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏؛ كرره للتأكيد، وللتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابدوا من العسر، ‏{‏إنه بهم رؤوف رحيم‏}‏؛ حيث قَبَلهم، وتاب عليهم، وتاب على الثلاثة‏:‏ وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق، ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عتب عليهم، وأمر الناس ألا يكلمهم، وأن يعتزلوا نساءهم، فقبلوا على ذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم‏.‏ وقد وقع حديثهم في البخاري ومسلم وكتب السير‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏الذين خلفوا‏}‏ أي‏:‏ تخلفوا عن الغزو‏.‏ وقال كعب بن مالك‏:‏ خلفوا عن قبول العذر، وليس بالتخلف عن الغزو، ويقوي ذلك كونه جعل‏:‏ ‏{‏حتى إذا ضاقت عليهم الأرض‏}‏ غاية للتخلف، أي‏:‏ خلفوا عن قبول العذر، وأخروا ‏{‏حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت‏}‏ أي‏:‏ برحبها وسعتها، وذلك لإعراض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة‏.‏ ‏{‏وضاقت عليهم أنفسهم‏}‏؛ من فرط الوحشة والغم، ‏{‏وظنوا‏}‏ أي‏:‏ علموا ‏{‏أن لا ملجأ من الله‏}‏ أي‏:‏ من سخطه ‏{‏إلا إليه‏}‏ أي‏:‏ إلا إلى استغفاره والرجوع إليه، ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏؛ بالتوفيق بالتوبة، ‏{‏ليتوبوا‏}‏ يإظهارها والدوام عليها، وليعدوا من التوابين، ‏{‏إن الله هو التواب‏}‏ لمن تاب، ولو عادوا في اليوم سبعين مرة، ‏{‏الرحيم‏}‏؛ متفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ التوبة توبتان‏:‏ توبة العبد، وتوبة الله، توبة العبد‏:‏ الرجوع من الزلات إلى الطاعات، وتوبة الله‏:‏ رجوعه إلى العبد بنعت الوصال، وفتح باب المآب، وكشف النقاب عن الاحتجاب، وطلب العتاب‏.‏

إذا مَرِضنا أَتَينَاكُم نَعُودكُمُ *** وتذنبون فنأتيكم ونعتذُر

انظر لطف الله بنبيه وأصحابه، كيف تاب لأجلهم مكان توبتهم، رجع إليهم قبل رجوعهم إليه، ليسهل عليهم طريق الرجوع إليه، فرجوعه إلى نبيه بكشف المشاهدة، ورجوعه إليهم بكشف القربة، فتوبته للنبي صلى الله عليه وسلم من غيبته عن المشاهدة؛ باشتغاله بأداء الرسالة، وتوبة القوم من غيبتهم عن ملاحظة الحضرة، فلما ذاقوا الجنايات، واحتجبوا عن المشاهدات؛ أدركهم فيض الوصال، وانكشف لهم أنوار الجمال، وهكذا سنة الله في الأنبياء والأولياء، إذا ذابوا في مقام الامتحان، وبقوا في الحجاب عن مشاهدة الرحمن، تمطر عليهم وبل سحاب الكرم، ويلمع لأبصار أسرارهم نور شرف القدم، فيؤنسهم بعد إياسهم، ويواصلهم بعد قنوطهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا استيأس الرسل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 110‏]‏ الآية‏.‏ ثم قال عن بعضهم‏:‏ توبة الأنبياء في مشاهدة الخلق في وقت الإبلاغ؛ إذ الأنبياء لا يغيبون عن الحضرة، بل لا يحضرون في مواضع الغيبة؛ لأنهم في عين الجمع أبداً‏.‏ ه‏.‏

قال المحشي‏:‏ وحاصلة‏:‏ توبة الله المذكورة وَهبيةٌ، وهي في كل أحد على حسب ما يليق بمقامه، وإنما يليق بمقام الرسل ترقيته عن مقام إلى أعلى، أو من شعور بخلق؛ لأجل الإبلاغ، إلى الغيبة عن ذلك، وكذلك أبداً كأهل الجنة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله‏}‏؛ بالمحافظة على ما أمركم به، والانكفاف عما نهاكم عنه، ‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم وعهودهم‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ ويحتمل أن يريد به صدق اللسان؛ إذ كان هؤلاء قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان؛ وهو الصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد والعزائم، والمراد بالصادقين‏:‏ المهاجرين، لقوله في الحشر‏:‏ ‏{‏للِفُقَرآءَ المُهَجِرِينَ‏}‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ الصادقون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة، فقال‏:‏ ‏(‏نحن الصادقون، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا‏)‏؛ أي‏:‏ تابعين لنا‏.‏ ه‏.‏ زاد السهيلي‏:‏ ولمَّا استحق الصادقون أن تكون الخلافة فيهم، استحق الصِّدِّيقُ أن تكون الخلافة له، ما دام حياً؛ إذ كان صديقاً‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ الصدق سيف حازم، ما وضع على شيء إلا قطعه، ويكون في الأقوال، وهو صيانتها من الكذب، ولو ادى إلى التلف‏.‏ وفي الأفعال، وهو صيانتها من الرياء وطلب العوض‏.‏ وفي الأحوال، وهو تصفيتها من قصد فاسد، كطلب الشهرة، أو إدراك مقام من المقامات، أو ظهور كرامات، أو غير ذلك من المقاصد الدنية‏.‏ قال القشيري‏:‏ الصادقون هم السابقون الأولون، كأبي بكر وعمر وغيرهما، والصدق‏:‏ استواء السِّرِّ والعلانية، وهو عزيز، وكما يكون في الأقوال يكون في الأحوال، وهو أتَمُّ‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 121‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ولا يرغبوا‏)‏‏:‏ منصوب بالعطف، أو مجزوم بالنهي، والوادي‏:‏ أصله‏:‏ فاعل، من وَدِيَ، إذا سأل، وهو منقوص، وهو في اللغة‏:‏ كل متفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ يصح ‏{‏لأهل المدينةِ‏}‏، ولا لمن ‏{‏حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله‏}‏ في غزوة ولا سرية ولا غيرهما، وهي نهي بصيغة النفي؛ للمبالغة، ‏{‏لا‏}‏ ينبغي لهم أن ‏{‏يَرْغَبُوا بأنفسهم عن نفسِه‏}‏؛ بأن يصونوها من اقتحام المشقات والمتاعب التي تحملها نبي الله صلى الله عليه وسلم، حيث قعدوا عنه، ولم يكابدوا معه ما كابده من الأهوال‏.‏

رُوي أن أبا خَيْثمة دخل بستانه، بعد خروجه عليه الصلاة والسلام لتبوك، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال‏:‏ ظِلّ ظَلِيلٌ، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحّ، والريح ما هذا بخير فقام، فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يقطع السراب، فقال‏:‏ كن أبا خيثمة، فكأنهُ، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له‏.‏

ثم علل النهي بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏؛ إشارة إلى النهي عن التخلف المفهوم من الكلام، ‏{‏بأنهم‏}‏؛ أي‏:‏ بسبب أنهم ‏{‏لا يُصيبهم‏}‏ في سفرهم ‏{‏ظََمأ‏}‏ من حر العطش، أو عطش، ‏{‏ولا نَصبٌ‏}‏ تعب، ‏{‏ولا مَخمَصةٌ‏}‏؛ مجاعة، ‏{‏في سبيل الله‏}‏، ‏{‏ولا يطؤون‏}‏ يدرسون بأرجلهم أو بأبدوابهم ‏{‏مَوْطئاً‏}‏؛ مكاناً ‏{‏يغيظ الكفار‏}‏ أي‏:‏ يغيظهم ذلك الوطء، ‏{‏ولا ينالون من عدو نيلاً‏}‏؛ كالقتل، والأسر، والنصب، وكل ما ينكبهم، ‏{‏إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ‏}‏، أي‏:‏ إلا استوجبوا به ثواباً جزيلاً‏.‏ وذلك مما يوجب النهوض إلى الغزو معه صلى الله عليه وسلم؛ فإن ‏{‏الله لا يُضيع أجرَ المحسنين‏}‏ على إحسانهم، وهو تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏إلا كتب لهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

وفيه تنبيه على أن الجهاد إحسان، إما في حق الكفار؛ فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المُداوي للمجنون، وإما في حق المؤمنين؛ فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم على الإسلام‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏ولا يُنفقون نفقةً صغيرةً‏}‏ في امر الجهاد، ولو علاقة سيف، ‏{‏ولا كبيرة‏}‏؛ مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، ‏{‏ولا يقطعُون وادياً‏}‏ في سيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السبيل، ‏{‏إلا كُتِبَ لهم‏}‏ ذلك، ولم يضعْ منه شيء، ‏{‏ليجزيَهُم الله‏}‏ بذلك ‏{‏أحسنَ ما كانوا يعملون‏}‏، أي‏:‏ جزاء أحسن أعمالهم، أو أحسن جزاء أعمالهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينبغي للفقراء أن يتخلفوا عن أشياخهم إذا سافروا لحج أو غزو أو تذكير أو زيادة، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فيقعدون في الراحة والدعة؛ وشيخهم في التعب والنصب؛ لأن ما يصيبهم من مشاق السفر زيادة في ترقيهم ومعرفتهم، وتقوية لمعانيهم، إلى غير ذلك من فوائد السفر، فهو في حق السائرين أمر مؤكد، فكما سار البدن في عالم الشهادة سار القلب في عالم الغيب، كما هو محبوب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون‏}‏ يستقيم لهم ان ينفروا ‏{‏كافةً‏}‏؛ جميعاً لنحو غزو، أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعاً، فإنه بخل، ووهن للإسلام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا، أي‏:‏ لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه‏.‏ فالآية الأولى في الخروج معه صلى الله عليه وسلم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل‏:‏ ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهي دليل على أن الجهاد فرض كفاية‏.‏

‏{‏فلولا‏}‏‏:‏ فهلا ‏{‏نَفَرَ من كل فرقةٍ‏}‏؛ جماعة كبيرة، كقبيلة أو بلدة، ‏{‏طائفة‏}‏ قليلة منها؛ ‏{‏ليتفقهوا في الدين‏}‏، اما إذا خرجوا للغزو؛ فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان، وترقق البشرية، فتستفيد الروح حينئذٍ علوماً لدنية، وأسراراً ربانية، من غير تعلم، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار‏.‏

قال في الإحياء‏:‏ التفقه‏:‏ الفقه عن الله؛ بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى وملازمتها، وهذا مقتضى الآية‏.‏ فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الانذار، لا الفقه المصطلح عليه‏.‏ ه‏.‏ وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليُنْذِرُوا قومَهم إذا رجعوا إليهم‏}‏، أي‏:‏ وليجعلوا غاية سعيهم ومُعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم‏.‏ وتخصيصه بالذكر؛ لأنه أهم، وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يَحذَرُون‏}‏، أي‏:‏ لعلهم يخافون مما حذروا منه‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ قد قيل‏:‏ للآية معنى آخر، وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل؛ تسابق المؤمنون إلى نفير، وانقطعوا عن التفقه، فأمروا ان ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر؛ لأن الجدال بالحجة هو الأصل، المقصود من البعثة، فيكون الضمير في ‏{‏ليتفقهوا‏}‏، ‏{‏ولينذروا‏}‏‏:‏ للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي ‏{‏رجعوا‏}‏‏:‏ للطوائف النافرة، أي‏:‏ لينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم حصَّلوا أيام غيبتهم من العلوم‏.‏ ه‏.‏ وتقدير الآية على هذا‏:‏ فلولا نفر من كل فرقةٍ طائفةٌ، وجلس طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدين لَتَعطَّلَ عليهم المعاش، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب، فجعل ذلك فرضاً على كفاية‏.‏

ويقال‏:‏ المسلمون على مراتب‏:‏ فعوامَّهم كالرعية للمَلِك، وكَتَبَةُ الحديث كخزنة المَلِك، وأهل القرآن كحُفَّاظ الدفاتر، ونفائس الأموال‏.‏ والفقهاء بمنزلة الوكلاء؛ إذ الفقيه يوقع الحكم عن الله‏.‏ وعلماءُ الأصول كالقُوَّاد وامراء الجيوش‏.‏ والأولياءُ كأركان الباب‏.‏ وأربابُ القلوب وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه‏.‏ فشغل قوماً بحفظ أركان الشرع، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخران بالردِّ على المخالفين، وآخران بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل قوماً مُفْرَدين لحضور القلب؛ وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم، وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طلَبٌ، ولا يهزُّهم أمر، فهم بالله لله، بمحو ما سوَّى الله، وامَّا الذين يتفقهون في الدين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله بمَنْ كان يَفْهَمُ عن الله‏.‏ ه‏.‏

قوله‏:‏ وأما الذين يتفقهون‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، الداعون إلى الله على الحقيقة هم العارفون بالله، وهم أصحاب الشهود، الذين وصفهم قبل، وأما الفقهاء في الدِّين فإنما يدعون إلى أحكام الله، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته؛ فدعواهم ضعيفة التأثير، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدي العارفين‏.‏

وقال الورتجبي، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليتفقهوا في الدين‏}‏‏:‏ قال المرتعش‏:‏ السياحة والأسفار على ضربين‏:‏ سياحة لتعلّم احكام الدين وأساس الشريعة، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام في الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله‏.‏ وسياحة هي سياحة الحق، وهي رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم، فهذا بركته تعم البلاد والعباد‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏، أي‏:‏ جاهدوا الأقرب فالأقرب بالتدريج، كما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح‏.‏ وقيل‏:‏ هم يهود حوالي المدينة، كقريظة والنضير وخيبر، وقيل‏:‏ الروم بالشام؛ وهو قريب من المدينة، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق حينئذٍ بعيدة‏.‏ ‏{‏وليجدوا فيكم غِلْظَةً‏}‏؛ شدة وصبراً على قتالهم، ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ بالإعانة والنصر والحراسة‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لأهل الوعظ والتذكير أن يبدأوا بالأقرب فالأقرب على التدريج؛ قال الرفاعي رضي الله عنه‏:‏ إذا أراد الله أن يرقي عبداً إلى مقامات الرجال؛ كلفه بأمر نفسه أولاً، فإذا أدب نفسه واستقامت معه، كلفه بأهله؛ فإن أحسن إليهم وساسهم، كلفه بأهل بلده، فإن أحسن إليهم وساسهم، كلفه جهةً من البلاد، فإن هو نصحهم، وساسهم، وأصلح سريرته مع الله، كلفه رتبة ما بين السماء والأرض، فإن لله خلقاً لا يعلمهم إلا الله، ثم لا يزال يرتفع من سماء حتى يرتفع ويصل إلى محل القطب الغوث، وهناك يطلعه الله على بعض غيبه‏.‏ انتهى‏.‏

والغلطة التي تكون في المذكر، إذا رأى منكراً، أو ذُكرَ له وأراد النهي عنه‏.‏ وأما في الترغيب والإرشاد فينبغي أن يُغلب جانب اللطافة واللين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 127‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورةٌ‏}‏ من القرآن، ‏{‏فمنهم‏}‏؛ فمن المنافقين ‏{‏من يقولُ‏}‏؛ إنكاراً واستهزاءً‏:‏ ‏{‏أيُّكم زادتْهُ هذه‏}‏ السورة ‏{‏إيماناً‏}‏، كما يزعم أصحاب محمد‏:‏ ان القرآن يزيدهم إيماناً، فلا زيادة فيه، ولا دليل أنه من عند الله‏.‏ قال تعالى في الرد عليهم‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً‏}‏؛ لتنوير قلوبهم، وصفاء سرائرهم، فتزيدهم إيماناً وعلماً؛ لما فيها من الإنذار والإخبار، ولانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم، ‏{‏وهم يستبشرون‏}‏ بنزولها؛ لأنها سبب لزيادة إيمانهم، وارتفاع درجاتهم، بخلاف قلوب المنافقين؛ فلظلمانيتها وخوضاً لم تزدهم إلا خوضاً، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏واما الذين في قلوبهم مرض‏}‏؛ كفر وشك، ‏{‏فزادتهم رجْساً إلى رِجْسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كفراً بها، مضموماً إلى الكفر بغيرها، الذي كان حاصلاً فيهم، ‏{‏وماتوا وهم كافرون‏}‏ أي‏:‏ وتحكم ذلك في قلوبهم حتى ماتوا عليه‏.‏

‏{‏أوَ لا يَرَوْنَ‏}‏ أي‏:‏ المنافقون، ‏{‏أنهم يُفتَنُون‏}‏ أي‏:‏ يُبتلون ويُختبرون بأصناف البليات، كالأمراض والجوع، أو الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات، أو يفضحون بكشف سرائرهم‏.‏ يفعل ذلك بهم ‏{‏في كل عامٍ مرةً أو مرتين، ثم لا يتوبون‏}‏‏:‏ لا ينتهون من نفاقهم وكفرهم، ‏{‏ولا هم يذَّكَّرون‏}‏؛ يعتبرون‏.‏

‏{‏وإذا ما أُنزلت سورةٌ نظر بعضُهم إلى بعضٍٍ‏}‏، يريدون الهرب، يقولون‏:‏ ‏{‏هل يراكم من أحدٍ‏}‏ إذا قمتم، فإن لم يرهم أحد قاموا وانصرفوا‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ تغامزوا بالعيوب، إنكاراً لها وسخرية، أو غيظاً؛ لما فيها من عيوبهم‏.‏ ه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ المعنى‏:‏ إذا ما أُنزلت سورة فيها فضيحتهم، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير، يُفْهم من تلك النظرة‏:‏ التقرير‏:‏ هل معكم من ينقل عنكم‏؟‏ هل يراكم من أحد حين تدبرون أمركم‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثم انصَرَفُوا‏}‏؛ أي‏:‏ عن طريق الاهتداء، وذلك أنهم حينما بيَّن لهم كشف أسرارهم، يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لهم، فهم إذ يصممون على الكفر، ويرتكبون فيه، كأنهم انصرفوا عن تلك الحال، التي كانت مظنة النظر والاهتداء‏.‏ ه‏.‏

والتحقيق‏:‏ أن معنى ‏{‏انصرفوا‏}‏‏:‏ قاموا عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم؛ مخافة الفضيحة‏.‏ ‏{‏صَرَفَ اللهُ قلوبَهم‏}‏ عن الإيمان؛ دعاء عليهم، أو إخبار، فيستوجبون ذلك؛ ‏{‏بأنهم‏}‏ بسبب أنهم ‏{‏قوم لا يفقهون‏}‏؛ لا يفهمون عن الله؛ ولا عن رسوله عليه الصلاة والسلام، أو لا يفقهون سوء فهمهم أو عدم تدبرهم‏.‏

الإشارة‏:‏ زيادة الإيمان عند سماع القرآن يكون على حسب التصفية والتطهير من الأغيار، فبقدر ما يصفوا القلب من الأغيار يكشف له عن أسرار القرآن‏.‏ قال بعضهم‏:‏ كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة، فجاهدت نفسي وطهرتها، فصرت كأني أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، يتلوه على أصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه، فكنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ منَّ عليّ اللهُ بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المتكلم به، فعندما وجدت له نعيماً لا أصبر عليه‏.‏

ه‏.‏ بلفظه‏.‏

مثل هذا يزيده القرآن إيقاناً، ويستبشر قلبه عند سماعه، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا، مَغْمُوراً بالشكوى والأوهام والخواطر؛ فلا يزيده القرآن إلا بُعداً؛ حيث لم يتدبر فيه، ولم يعمل بمقتضاه، وإذا حضر مثلُ هذا الغافل مجلسَ وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس، بل نظر‏:‏ هل يراه من أحد‏؟‏ ثم انصرف، صرف الله قلبه عن حضرة قدسه؛ لعدم فهمه عن ربه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «عزيز»‏:‏ صفة «الرسول»، و«عنتم»‏:‏ فاعله، و«ما»‏:‏ مصدرية، أي‏:‏ عزيز عليه عَنَتُكُم، أو عزيز‏:‏ خبر مقدم، و«ما عنتم» مبتدأ، والعنت‏:‏ المشقة والتعب‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ مخاطباً العرب، أو قريش، أو جميع بني آدم‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكم‏}‏؛ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ من قبيلتكم، بحيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته، وتفهمون خطابه، أو من جنسكم من البشر‏.‏ وقرأ ابن نشيط‏:‏ بفتح الفاء، أي‏:‏ من اشرافكم‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةًَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشاً مَنْ كِنَانَةَ، واصْطَفَى بَنِي هَاشِم مِنْ قُريْشٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِم، فأنا مُصْطَََفى من مُصْطَفَيْن»

‏{‏عزيزٌ عليه‏}‏، أي‏:‏ شديد شاق عليه ‏{‏ما عَنِتُّمْ‏}‏ أي‏:‏ عنتكم ومشقتكم ولقاؤكم المكروه في دينكم ودنياكم‏.‏ ‏{‏حريصٌ عليكم‏}‏ أي‏:‏ على إيمانكم وسعادتكم وصلاح شأنكم، ‏{‏بالمؤمنين‏}‏ منكم ومن غيركم ‏{‏رؤوف رحيم‏}‏ أي‏:‏ شفيق بهم، قدَّم الأبلغ منهما؛ لأن الرأفة شدة الرحمة؛ للفاصلة‏.‏ وسمى رسوله هنا باسمين من أسمائه تعالى‏.‏

‏{‏فإن تولَّوا‏}‏ عن الإيمان بك، بعد هذه الحالة المشهورة، التي منَّ الله عليهم بها، ‏{‏فقلْ حسبيَ اللهُ‏}‏ أي‏:‏ كافيني أمركم؛ فإن قلت ذلك يكفيك شأنهم ويعنيك عليهم، أو فإن أعرضوا فاستعن بالله وتوكل عليه، فإنه كافيك، ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏؛ فلا يُتوكل إلا عليه، ‏{‏عليه توكلتُ‏}‏؛ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه، ‏{‏وهو ربُّ العرش العظيم‏}‏، أي‏:‏ المُلك العظيم، أو الجسم الأعظم المحيط، الذي تنزل منه الأحكام والمقادير‏.‏

وعن أُبي‏:‏ آخر ما نزل هاتان الآيتان‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما نَزَل القرآنُ عليَّ إلا آية آيةً، وحرفاً حرفاً، ما خَلاَ سورة براءة» و‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ فإنهما أُنْزِلَتَا عليَّ ومَعَهُمَا سْبعون ألف صفٍ من الملائكة «‏.‏ قاله البيضاوي وهاتان الآيتان أيضاً مما وجدَتَا عند خزيمة بن ثابت، بعد جمع المصحف، فألحقتا في المصحف، بعد تذكير الصحابة لهما وإجماعهم عليهما‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لورثته عليه الصلاة والسلام الداعين إلى الله، أن يتخلقوا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فيشق عليهم ما ينزل بالمؤمنين من المشاق والمكاره، وييسرون ولا يعسرون عليهم، ويحرصون على الخير للناس كافة، ويبذلون جهدهم في إيصاله إليهم، ويرحمونهم ويشفقون عليهم، فإن ادبروا عنهم استغنوا بالله وتوكلوا عليه، وفرضوا أمرهم إليه، من غير أسف ولا حزن‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عزيز عليه ما عنتم‏}‏، اشتد عليه مخالفتنا مع الحق، ومتابعتنا هوانا واحتجابنا عن الحق‏.‏ قال بعضهم‏:‏ شق عليه ركوبكم مراكب الخلاف‏.‏

قال سهل‏:‏ شديد عليه غفلتكم عن الله وهو طرفة عين‏.‏ ثم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فقل حسبي الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ سَلى قلبه بإعراضهم عن متابعته، مع كونه حريصاً على هدايتهم، أي‏:‏ ففي الله كفاية عن كل غير وسِوى‏.‏

قال القشيري‏:‏ أمَره أن يَدْعُو الخَلْقَ إلى التوحيد، ثم قال له‏:‏ فإِنْ أَعرضوا عن الإجابة فكُنْ بنا، بنعت التجريد‏.‏ ويقال‏:‏ قال له‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك الله‏}‏، ثم أمره أن يقول‏:‏ حسبي الله‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حسبك‏}‏‏:‏ عين الجمع، وقوله‏:‏ ‏{‏حسبي الله‏}‏ فَرْق، بل هو الجمع، أي‏:‏ قُلْ، ولكن بنا تقول، فنحن المتولون عنك وأنت مُستَهْلَكٌ في عين التوحيد؛ فأنت بنا، ومَحْوٌ عن غيرنا‏.‏ ه‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

سورة يونس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏عجباً‏)‏ خبر كان، واسمها‏:‏ ‏(‏أن أوحينا‏)‏، ومن قرأ بالرفع فالأمر بالعكس، أو كان تامة، واللام متعلقة بعجباً، وهو مصدر للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم، يتوجهون نحوه بإنكارهم واستهزائهم‏.‏

قال في المغني‏:‏ المصدر الذي ليس في تقدير حرف الموصول وصلته لا يمنع التقديم عليه، على أن السعد قال في المطوّل‏:‏ إن معمول المصدر إذا كان ظرفاً أو شبهة، الأظهر أنه جائز التقديم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ مثل هذا كثير في الكلام، وليس كل ما أول بشيء حكمُه حكم ما أول به، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة الفعل؛ لأن له شأناً ليس لغيره؛ لتنزله من الشيء منزلة نفسه؛ لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها‏.‏ ه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ أيها الرسول المجتبى المختار ‏{‏تلك‏}‏ الآيات التي تنزل عليك هي ‏{‏آياتُ الكتاب الحكيم‏}‏، الذي اشتمل على الحكم الباهرة والعبر الظاهرة، أو المحكم الذي لم ينسخ منه شيء بكتاب آخر بعده، أو كلام حكيم‏.‏ ‏{‏أَكَانَ للناس‏}‏ أي‏:‏ كفار قريش وغيرهم ‏{‏عَجَباً أن أوحينا إلى رجل منهم‏}‏ ولم يكن من عظمائهم‏؟‏ والاستفهام للإنكار، والرد على من استبعد النبوة، أو تعجب من أن يبعث الله رجلاً من وسط الناس‏.‏

قيل‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ العجب أن الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب‏.‏ وهذا من فرط حماقتهم، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة‏.‏

هذا‏.‏‏.‏ وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقْصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه، إلا في المال، وخفةُ الحال أعون شيء في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك أي خفافاً من المال وقيل‏:‏ تعجبوا من أنه بشراً رسولاً، كما سبق في سورة الأنعام‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

ثم فسَّر الوحي المذكور فقال‏:‏ ‏{‏أن أنذر الناس‏}‏ أي‏:‏ أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي‏:‏ خوفهم من غضب ربهم، ‏{‏وبشّر الذين آمنوا‏}‏، عمم الإنذار، ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغي أن ينذر منه، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به، قاله البيضاوي‏.‏

أي‏:‏ بشر المؤمنون بأنَّ ‏{‏لهم قَدَمَ صدْقٍ عند ربهم‏}‏ أي‏:‏ سابقة ومنزلة رفيعة، سميت قدَماً لأن السبق يكون بها، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعْطى باليد، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ أي‏:‏ عمل صالح قدموه، وقال ابن عباس‏:‏ السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول‏:‏ صدقٍ ورجل سوْءٍ‏.‏

ه‏.‏

‏{‏قال الكافرون إنَّ هذا‏}‏ الكتاب، أو ما جاء به الرسول، ‏{‏لسحر مبين‏}‏ أي‏:‏ بيَّن ظاهر، وقرأ ابن كثير والكوفيون‏:‏ ‏{‏لساحر‏}‏، على أن الإشارة إلى الرسول، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أموراً خارقة للعادة، معجزة لهم عن المعارضة، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيراً لما ذكره قبلُ من تعجبهم، أويكون مستأنفاً‏.‏

الإشارة‏:‏ تعجبُ الناس من أهل الخصوصية سُنة ماضية، فكما خفي عن أعين الكفار سر النبوة، خفي عن أعين الخفافيش سر الخصوصية، فلا يطلع عليها إلا من سبق له قدم صدق عند ربه، فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية؛ فلم يدل عليها إلا من أراد أن يوصله إلى مشاهدة عظمة الربوبية‏.‏

قال في لطائف المنن‏:‏ فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، وسمعت الشيخ أبا العباس رضي الله عنه يقول‏:‏ معرفة الولي أصعب من معرفة الله، فإنَّ الله تعالى معروف بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقاً مثلك يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب‏؟‏، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن ربكم‏}‏ الذي يستحق العبادة وحده هو ‏{‏اللهُ‏}‏ الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود، وبه رد على من أنكر النبوة، كأنه يقول‏:‏ إنما أدعوكم إلى عبادة الله الذي خلق الأشياء، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين‏؟‏ ثم فصَّل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ التي هي أصول الكائنات، ‏{‏في‏}‏ مقدار ‏{‏ستةِ أيام‏}‏ من أيام الدنيا، ولم يكن حينئذٍ ليل ولا نهار، والجمهور‏:‏ أن ابتداء الخلق يوم الأحد، وفي حديث مسلم‏:‏ يوم السبت، وأنه خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك‏.‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ استواء يليق به، كاستواء الملك على سريره ليُدير أمر مملكته، ولذلك رتب عليه‏:‏ ‏{‏يُدَبِّر الأمرَ‏}‏، وقد تقدم الكلام عليه في الأعراف‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ يُدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته، وسبقت به كلمته، بتحريك أفلاكها، وتهيئ أسبابها، والتدبير‏:‏ النظر في عواقب الأمور لتجيء محمودة العاقبة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ما من شفيع‏}‏ تُقبل شفاعته ‏{‏إلا من بعد إِذْنِه‏}‏ له في الشفاعة، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له، كالأنبياء والعلماء الأتقياء‏.‏ ‏{‏ذلكم الله‏}‏ أي‏:‏ الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو ‏{‏الله ربكم‏}‏ لا غير؛ إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك، ‏{‏فاعبدوه‏}‏‏:‏ أفردوه بالعبادة ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ أي‏:‏ تتفكرون أدنى تفكر، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدون من الأصنام‏.‏

‏{‏إليه مرجعكم‏}‏ بالبعث ‏{‏جميعاً‏}‏ فيجازيكم على أعمالكم، ويعاقبكم على شرككم، ‏{‏وعد الله حقاً‏}‏‏.‏ مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم‏}‏ وعدٌ من الله‏.‏ ‏{‏إنه يبدأ الخلق‏}‏ بإظهاره في الدنيا ‏{‏ثم يُعيده‏}‏ بعد إهلاكه في الآخرة‏.‏ ‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏، تعليل للعودة؛ وهي البعثة، وقوله‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ أي‏:‏ بالعدل؛ بأن يعدل في جزائهم، فلا يظلم مثقال ذرة، أو بعدلهم وقيامهم على العمل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم‏.‏ وهو الأوجه لمقابلة قوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم‏}‏ بسبب كفرهم وشركهم الذي هو الظلم العظيم لكنه غيَّر النظم للمبالغة في استحقاقهم العذاب والتنْبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، وأما العقاب فإنما هو الواقع بالعرض، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة، فإنه إنما ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشوم أفعالهم‏.‏

والآية كالدليل لقوله‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً‏}‏، فإنَّه لمَّا كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة من قرأ‏:‏ «أنه يبدأ» بالفتح، أي‏:‏ لأنه، ويجوز أن يكون منصوباً بما نصب «وعد الله»‏.‏

قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ تقدم بعض إشارة هذه الآية في الأعراف، وقال الورتجبي هنا‏:‏ جعل العرش مرآة تجلي قدسه ومأوى أرواح أحبابه لقوله‏:‏ ‏{‏ثم استوى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ ثم دعاهم إلى عبادته بعد معرفته بقوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏‏.‏ وقال القشيري‏:‏ ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ تعريف، وقوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏ تكليف، فحصولُ التعريف بتحقيقه، والوصولُ إلى ما وَرَدَ به التكليف بتوفيقه‏.‏ ه‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً‏}‏‏:‏ الرجوع يقتضي ابتداء، والأرواح قبل حصولها في الأشباح كان لها في مواطن التسبيح والتقديس إقامة، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند مُحبيِّه وذويه، وأنشدوا‏:‏

أَيا قَادماً من سَفرةِ الهَجرِ مَرْحَباً *** أَنَا ذاك لا أَنساكَ مَا هَبَّت الصَّبا‏.‏ ه‏.‏

وفي الإحياء‏:‏ كل من نسي الله أنساه لا محالة نفسه، ونزل إلى رتبة البهائم، وترك الترقي إلى أُفق الملأ الأعلى، وخان في الأمانة التي أودعها له تعالى، وأنعم بها عليه، وكان كافراً لنعمته، ومتعرضاً لنقمته؛ فإن البهيمة تتخلص بالموت، وأما هذا فعنده أمانة سترجعُ لا محالة إلى مُودعها، فإليه مرجع الأمانة ومصيرها، وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة، وإنما هبطت إلى هذا القالب الفاني وغربت فيه، وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها، وتعود إلى بارئها وخالقها، إما مظلمة مُنكسة، وإما زاهرة مشرقة، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة؛ إذ المرجع ومصير الكل إليه، إلا أنها ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين، إلى جهة أسفل سافلين، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ فبيَّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم إلى اقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل، وذلك حكم الله تعالى فيمن حَرمَهُ توفيقه، ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول في منازل الجُهال‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ظاهر كلامه‏:‏ أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن، والحق إنها ترجع لأصلها، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن؛ إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني، فتتصل حينئذٍ بالعالم الروحاني، مع قيام العالم الجسماني، كما هو مقرر عند أهل التحقيق، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «ضياء»‏:‏ مفعول ثان، أي‏:‏ ذات ضياء، وهو مصدر كقيام، أو جمع ضوء كسياط، والياء منقلبة عن الواو، وفي رواية عن ابن كثير بهمزتين في كل القرآن على القلب، بتقديم اللام على العين، والضمير في «قدره» للشمس والقمر، كقوله‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 26‏]‏، أو للقمر فقط‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء‏}‏ أي‏:‏ ذات ضوء وإشراق أصلي، ‏{‏والقمرَ نوراً‏}‏ أي‏:‏ ذا نور عارض، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها، ولذلك يزيد نوره وينقص، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نوراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، فالنور أعم من الضياء، والضياء أعظم من النور‏.‏ ‏{‏وقدَّره منازلَ‏}‏ أي‏:‏ قدر سير كل واحد منهما منازل، أو القمر فقط، وخصصه بالذكر لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به‏.‏ ولذلك علله بقوله‏:‏ ‏{‏لتعلموا عددَ السنينَ والحسابَ‏}‏ أي‏:‏ حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي في معاملتكم وتصرفاتكم‏:‏

‏{‏ما خلق اللَّهُ ذلك‏}‏ الذي تقدم من أنواع المخلوقات ‏{‏إلا بالحق‏}‏ أي‏:‏ ملتبساً بالحق، مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثاً عارياً عن الحكمة، أو ما خلق ذلك إلا ليُعرف فيها، فما نُصب الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها‏.‏ وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ الحق الذي خلق الله به كل شيء كلمة «كن»‏.‏ قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق وَلَهُ الملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏‏.‏ ه‏.‏ وهو بعيد هنا‏.‏

‏{‏نُفَصِّلُ الآياتِ لقوم يعلمون‏}‏ فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها‏.‏

ثم بيَّن وجه الاعتبار فقال‏:‏ ‏{‏إن في اختلاف الليل والنهار‏}‏ أي‏:‏ تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو بالزيادة والنقصان، ‏{‏وما خلق اللهُ في السموات والأرض‏}‏ من أنواع الكائنات وضروب المخلوقات، ‏{‏لآياتٍ‏}‏ دالة على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، ‏{‏لقوم يتقون‏}‏ الله، ويخشون العواقب، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر، بخلاف المنهمكين في الغفلة والمعاصي، الذين أشار إليهم بقوله‏:‏

‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءَنا‏}‏ أي‏:‏ لا يتوقعونه، أو‏:‏ لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، ‏{‏ورَضُوا بالحياة الدنيا‏}‏‏:‏ قنعوا بها بدلاً من الآخرة لغفلتهم عنها، ‏{‏واطمأنوا بها‏}‏ أي‏:‏ سكنوا إليها مقْصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها‏.‏ ‏{‏والذين هم عن آياتنا‏}‏ المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا، ‏{‏غافلون‏}‏‏:‏ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون؛ لانهماكهم في الغفلة والذنوب‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ والعطف إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً، والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين‏:‏ من أنكر البعث ولم يُرد إلاّ الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حبُ العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له‏.‏

ه‏.‏

‏{‏أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون‏}‏ أي‏:‏ بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذه اللفظة رد على الجبرية، ونص على تعلق العقاب بالتكسب‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ هو الذي جعل شمس العِيَان مشرقة في قلوب أهل العرفان، لا غروب لها مدى الأزمان، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نوراً يهتدي به إلى طريق الوصول إلى العيان، وقدَّر السير به منازل وهي مقامات اليقين ومنازل السائرين ينزلون فيها مقاماً مقاماً إلى صريح المعرفة، وهي التوبة والخوف، والرجاء والورع، والزهد والصبر، والشكر والرضى والتسليم والمحبة، والمراقبة والمشاهدة‏.‏ ما خلق الله ذلك إلا بالحق، ليتوصل به إلى الحق‏.‏ إن في اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير، لقوم يتّقون السوى، أو شواغل الحس‏.‏

إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏9‏)‏ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏تجري‏)‏‏:‏ جملة استئنافية، أو خبر ثان لإنَّ، أو حال من الضمير المنصوب في ‏{‏يهديهم‏}‏‏.‏ و‏(‏دعواهم‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏سبحانك‏)‏‏:‏ مقول للخبر أي‏:‏ قولهم سبحانك‏.‏ والتحية مأخوذة من تمني الحياة والدعاء بها، حياة تحية، ويقال للوجه‏:‏ مُحيا لوقوع التحية عند رؤيته، و‏(‏آخر‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏أن الحمد لله‏)‏‏:‏ خبر، وأن مخففة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يَهْدِيهمْ ربُّهم‏}‏ أي‏:‏ يسددهم ‏{‏بإيمانهم‏}‏؛ بسبب إيمانهم إلى الاستقامة والنظر، أوْ إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أوْ إلى إدراك الحقائق العرفانية، كما قال عليه الصلاة والسلام «مَنْ عَمِلَ بما علِم أَوْرَثه اللهُ علْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ» أو لِمَا يشتهونه في الجنة، ‏{‏تجري من تحتهم الأنهارُ‏}‏ الأربعة، ‏{‏في جنات النعيم‏}‏، ‏{‏دَعْواهم فيها‏}‏ أي‏:‏ دعاؤهم فيها‏:‏ ‏{‏سبحانك اللهم‏}‏ أي‏:‏ اللهم إنا نسبحك تسْبيحاً‏.‏ ورُوي‏:‏ أن هذه الكلمة هي ثمر أهل الجنة، فإذا اشتهى احدهم شيئاً قال‏:‏ سبحانك اللهم، فينزل بين يديه‏.‏ رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة‏.‏

‏{‏وتحيتُهم فيها سلام‏}‏ أي‏:‏ ما يحيي به بعضهم بعضاً، أو تحيّة الملائكة إياهم، أو تسليم الله تعالى عليهم فيها سلام، ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏ أي‏:‏ وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده تعالى وشكره‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمته وكبرياءه مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، وقدَّسُوه عند مشاهدته عن كل تماثيل وخيال، فحيَّاهم بسلام من عنده، وعندما منحهم سلامه واحلَّ عليهم رضوانه، وأدام لهم كرامته وجواره، وأراهم وجهه، حمدوه بما حمد به نفسه، فكانت بدايتهم بالتنزيه والتعظيم، وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده وشكره على ما مكنهم فيه، من رؤية وجهه الكريم، ودوام النعيم المقيم، وسمي دعاء لأنه يستدعي المزيد من فضله‏.‏ قاله المحشي‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الذين استكملوا الإيمان، وأخلصوا الأعمال، يهديهم ربهم إلى من يوصلهم إلى جنة حضرته ببركة إيمانهم، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم، في جنات مشاهدة طلعته، والتنعم بأنوار معرفته، فإذا عاينوا ذلك أدهشتهم الأنوار، فبادروا إلى التنزيه والتقديس، فيجيبهم الحق تعالى بإقباله عليهم بأنوار وجهه، وأسرار ذاته، فيحمدونه ويشكرونه على ما أولاهم من سوابغ نعمته، والسكون في جوار حضرته، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر، آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏استعجالهم‏)‏‏:‏ نصب على المصدر، أي‏:‏ استعجالاً مثل استعجالهم بالخير‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم في الخير، حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم‏.‏ ه‏.‏ ‏(‏فَنَذَرَ‏)‏‏:‏ عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية، كأنه قيل‏:‏ ولكن لا نعجل ولا نقضي بل نمهلهم فنذر‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولو يعجلُ الله الناس الشرَّ‏}‏ حيث يطلبونه، كقولهم‏:‏ ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏ ‏{‏استعجالهم بالخير‏}‏؛ كما يعجل الله لهم الخير حين يسألونه ‏{‏لقُضِيَ إليهم أجلُهُم‏}‏ أي‏:‏ لأميتوا وأهلكوا من ساعتهم، وقرأ ابن عباس ويعقوب‏:‏ «لَقَضى» بالبناء للفاعل، أي‏:‏ لقضى الله إليهم أجلهم، ولكن من حلمه الله تعالى وكرمه يُمهلهم إلى تمام أجلهم، ‏{‏فَنذَرُ الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ استدراجاً وإمهالاً ‏{‏في طغيانهم يعمهون‏}‏‏:‏ يتحيرون‏.‏ والعمه‏:‏ الخبط في الضلال، وهذا التفسير أليق بمناسبة الكلام، وقيل‏:‏ نزلت في دعاء الإنسان على نفسه وماله بالشر، أي‏:‏ لو عجل اللهُ للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعاً، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 11‏]‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فنذر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ استئنافاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ من حلمه تعالى وسعة جوده أنه لا يعامل عبده بما يستحقه من العقاب، ولا يعاجله بما يطلبه إن لم يكن فيه سداد وصواب، حُكي أن رجلاً قال لبعض الأنبياء عليهم السلام‏:‏ قل لربي‏:‏ كم أعصيه وأخالفه ولم يعاقبني، فأوحى الله إلى ذلك النبي‏:‏ ليعلم أني أنا وأنت أنت‏.‏ ه‏.‏ بل من عظيم كرمه تعالى أنه قد يعامل السائرين بعكس ما يستحقونه في جانب المخالفة؛ فقد تهوى بهم أنفسهم إلى مقام الخفض فيرتفعون، وإلى مقام البُعد فيقتربون، وهذا في قوم سبقت لهم العناية، فلم تضرهم الجناية، وحفت بهم الرعاية، فلم تستهوهم الغواية، إذا صدرت منهم المخالفة ندموا وانكسروا‏.‏ والغالب فيمن كانت تحت جناح الأولياء الكبار أن يسلك به هذا المسلك العظيم وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏لجنبه‏)‏‏:‏ متعلق بحال محذوفة، أي‏:‏ مضطجعاً لجنبه، و‏(‏كأن‏)‏ مخففة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا مسَّ الإنسان الضُّرُّ‏}‏ في بدنه أو ماله أو أحبابه، ‏{‏دعانا‏}‏ لإزالته مخلصاً فيه، وتضرع إلينا حال كونه مضطجعاً ‏{‏لجَنْبِه أو قاعداً أو قائماً‏}‏، وفائدة الترديد تقسم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، ‏{‏فلما كشفنا عنه ضُرَّه مرَّ‏}‏ أي‏:‏ مضى على طريقه واستمر على كفره، ولم يشكر الله على دفعه، أو مرَّ عن موقف الدعاء، ولم يرجع إليه‏.‏ ‏{‏كأن لم يَدْعُنَا‏}‏ أي‏:‏ كأنه لم يدعنا ‏{‏إلى‏}‏ كشف ‏{‏ضُرّ مسَّهُ‏}‏ قط‏:‏ ‏{‏نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏كذلك زُيّنَ للمسرفين‏}‏ أي‏:‏ مثل هذا التزيين زين للمسرفين ‏{‏ما كانوا يعلمون‏}‏ من الانهماك في الشهوات، والإعراض عن شكر المنعم عند المسرات وذهاب العاهات‏.‏

وفي الآية تهديد لمن تشبه بهذه الحالة، بل الواجب على العبد دوام التجائه إلى ربه، والشكر له عند ظهور إجابته وإسدال عافيته‏.‏

الإشارة‏:‏ من حسن الأدب؛ السكون تحت مجاري الأقدار، والتسليم لأحكام الواحد القهار، «فليس الشأن تُرزق الطلب، إنما الشأن أن تُرزق حسن الأدب»، وحسن الأدب‏:‏ هو الفهم عن الله؛ فإذا شرح صدرك للدعاء، فادع ولا تكثر، فإن المدعو قريب، ليس بغافل فيُنبه، ولا ببعيد فتنادي عليه، فإذا دعوته وأجابك فاشكره، وإن أخَّر عنك الإجابة فاصبر؛ فقد ضمن الإجابة فيما يريد، لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا القرونَ من قبلكم‏}‏ يا أهل مكة، ‏{‏لمَّا ظلمُوا‏}‏ بالكفر وتكذيب الرسل، ‏{‏وجاءتهم رسلُهم بالبينات‏}‏‏:‏ بالمعجزات الواضحات، الدالة على صدقهم، ‏{‏وما كانوا ليؤمنوا‏}‏ أي‏:‏ ما استقام لهم أن يُؤمنوا، لما سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله، ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه، بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم ‏{‏نجزي القوم المجرمين‏}‏ أي‏:‏ نجزي كل مجرم، أو نجزيهم، ووضع المظهر موضع المضمر؛ للدلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه‏.‏ قال البيضاوي‏.‏

‏{‏ثم جعلناكم‏}‏ يا أمة محمد ‏{‏خلائف في الأرض من بعدِهم‏}‏ من بعد إهلاكهم، فقد استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها، استخلاف من يختَبرُ ‏{‏لننظُرَ‏}‏ أي‏:‏ لنظهر ما سبق به العلم، فيتبين في الوجود، ‏{‏كيف تعملون‏}‏، أخيراً أم شراً‏؟‏ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم‏.‏

وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول‏:‏ «إنما جعلنا خلفاً لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية» وكان أيضاً يقول‏:‏ «قد استخلفتَ يا ابن الخطاب، فانظر كيف تعمل»‏.‏

الإشارة‏:‏ ما هلك من هلك إلا لإخلاله بالشرائع أو بالحقائق، فالشرائع، صيانة للأشباح، والحقائق صيانة للأرواح، فمن قام بالشرائع كما ينبغي صان نفسه من الآفات الدنيوية والأخروية، ومن قام بالحقائق على ما ينبغي، صان روحَه من الجهل بالله في هذه الدار، وفي تلك الدار ومن قام بهما معاً صان جسمه وروحه، وكان من المقربين، ومن قام بالشرائع دون الحقائق صان جسمه وترك روحه معذَّبةً في هذه الدار بالخواطر والوساوس والأوهام، وفي تلك الدار بالبعد والمقام مع العوام‏.‏ ومن قام بالحقائق دون الشرائع فإن كان دعوى عُذب جسمه وروحه لزندقته، وإن كان حقاً عذب جسمه هنا بالقتل، كما فُعل بالحلاج، والتحق بالمقربين في تلك الدار‏.‏

ويقال لأهل كل عصر‏:‏ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم بالبُعد وغم الحجاب، لما ظلموا بالوقوف مع الحظوظ والشهوات، وجاءتهم رسلهم التي توصلهم إلى ربهم وهم أولياء زمانهم الآيات الواضحة على صدقهم، ولو لم يكن إلا هداية الخلق على يديهم فأنكروهم، وما كانوا ليؤمنوا بهم لِمَا سبق لهم من البُعد، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، لننظر كيف تعملون مع شيوخ التربية في زمانكم، هل تنكرونهم أو تقرونهم، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا تُتلى عليهم‏}‏ يعني كفار قريش ‏{‏آياتُنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ من المشركين ‏{‏ائْتِ بقرآن غيرِ هذا‏}‏ أي‏:‏ بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب، والعقاب بعد الموت، أو ما ذكره من سب آلهتنا، وعيب ديننا، أو اجعل هذا الكلام الذي من قِبَلك على اختيارنا، فأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته؛ ليكون أمرنا واحداً وكلمتنا متصلة، ‏{‏أوبدِّلْه‏}‏ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏ما يكون‏}‏‏:‏ ما يصح ‏{‏لي أن أبدِّله من تلقاء نفسي‏}‏‏:‏ من قِبل نفسي، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل؛ لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، قل لهم‏:‏ ‏{‏إنْ‏}‏ أي‏:‏ ما ‏{‏أتبعُ إلا ما يوحى إليَّ‏}‏، لا أقدر أن أقول شيئاً من عندي‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ هو تعليل لما يكون، فإن المتبع لغيره في أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض، ورد لما عَرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعُه، ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال‏:‏ ‏{‏إني أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم‏}‏ يوم القيامة، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح‏.‏ ه‏.‏

‏{‏قل لو شاءَ اللهُ ما‏}‏ أرسلني إليكم، ولا ‏{‏تلوتُه عليكم ولا أدْرَاكم‏}‏ أي‏:‏ أعلمكم ‏{‏به‏}‏ على لساني‏.‏ وفي قراءة ابن كثير‏:‏ ولأدراكم، بلام التأكيد، أي‏:‏ لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري‏.‏

والمعنى أنه الحق لا شك فيه، لو لم أُرْسَل به أنا لأرسل به غيري‏.‏ وحاصل المعنى‏:‏ أن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتي، حتى أجعله على نحو ما تشتهون‏.‏ ثم قرر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فقدْ لبثتُ فيكم عُمُراً‏}‏ منذ أربعين سنة ‏{‏مِن قبله‏}‏ أي‏:‏ من قبل نزول هذا القرآن، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئاً، وفيه إشارة إلى القرآن معجز خارق للعادة، فأن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علماً، ولا يشاهد عالِماً، ولم ينشد قريضاً أي‏:‏ شعراً ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتاباً أعجزت فصاحتُه كل منطيق، وفاق كل منظوم ومنثور، واحتوى على قواعد عِلْمي الأصول والفروع، وأعرب عن أَقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه، عُلم انه معلم به من عند الله‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

فكل من له عقل سليم أدرك حقِّيته، ولذلك قرعهم بقوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ أي‏:‏ أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر، فتعلموا أنه ليس من طوْق البشر، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى الله بطريق صعبة على النفوس، يُسيرون الناس عليها، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد، قال من لا يرجو الوصول إلى الله لغلبة الهوى عليه‏:‏ ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه، يكون سهلاً على النفوس، موافقاً لعوائدنا، أو بدلوا هذا بطريق أسهل، وأما هذا الذي أتيتم به، فلا نقدر عليه، وربما رموه بالبدعة، فيقولون لهم‏:‏ ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم، فما ربَّوْنا به نُربّي به من تبعنا، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب الله، حيث غششنا من اتبعنا، ولقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين، فلم تروا علينا شيئاً من ذلك حتى صحبناهم، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم، أفلا تعقلون‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم‏}‏ لا أحد أظلم ‏{‏ممن افترى على الله كذباً‏}‏ بأن تقوَّل على الله ما لم يقل، وهذا بيان لبراءته، مما اتهموه به من اختراعه القرآن، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له والولد، ‏{‏أو كذَّب بآياته‏}‏ فكفر بها، فلا أظلم منه ‏{‏إنه‏}‏ أي‏:‏ الأمر والشأن ‏{‏لا يُفلح المجرمون‏}‏ أي‏:‏ لا يظفرون ببغيتهم، ولا تنجح مساعيهم؛ لإشراكهم بالله‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعُهم‏}‏ من الجمادات التي لا تقدر على ضر ولا نفع، والمعبود ينبغي أن يكون مثيباً ومُعاقباً، حتى تكون عبادته لجلب نفع أو دفع الضر‏.‏ ‏{‏ويقولون هؤلاء‏}‏ الأوثان ‏{‏شفعاؤنا عند الله‏}‏ تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا، أو في الآخرة إن يكن بعث، وكأنهم كانوا شاكين فيه، وهذا من فرط جهالتهم، حيث تركوا عبادة الموجد للأشياء، الضار النافع، إلى عبادة ما يُعلم قطعاً أنه لا يضر ولا ينفع‏.‏ ‏{‏قل أتنبّئون الله‏}‏ أتخبرونه ‏{‏بما لا يعلم‏}‏ وجوده ‏{‏في السماوات ولا في الأرض‏}‏ وهو أن له شريكاً فيهما يستحق أن يعبد‏.‏ وفيه تقريع وتهكم بهم‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ هو رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام، والمعنى‏:‏ أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هوعالم بما في السماوات والأرض، وكل ما ليس بمعلوم له فهو عدم محض، ليس بشيء، فقوله‏:‏ ‏{‏أتنبئون الله‏}‏ تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم، أي‏:‏ كيف تعلمون الله بما لا يعلم‏.‏ ه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي التوقيف على هذا أعظم غلبةٍ لهم، إذ لا يمكنهم إلا أن يقولوا‏:‏ لا نفعل، ولا نقدر أن نخبر الله بما لا يعلم‏.‏

ثم نزه نفسه عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً له وتعاظم ‏{‏عما يشركون‏}‏ أي‏:‏ إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم معه‏.‏ وقرأ الأخوان‏:‏ بالتاء، أي‏:‏ عما تشركون أيها الكفار‏.‏

الإشارة‏:‏ في هذه الآية زجر كبير لأهل الدعوى، الذين ادعوا الخصوصية افتراء، ولأهل الإنكار الذين كذبوا من ثبتت خصوصيته، وتسجيل عليهم بالإجرام، وبعدم النجاح والفلاح، وفيها أيضاً‏:‏ زجر لمن اعتمد على مخلوق في جلب نفع أو دفع ضر، أو اغتر بصحبة ولي يظن أنه يشفع له مع إصراره، وعظيم أوزاره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وما كان الناس إلا أمةً واحدةً‏}‏ موحَّدين، على الفطرة الأصلية، أو متفقين على الحق، وذلك في عهد آدم، إلى أن قتل قابيل أخاه هابيل، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم، أو الأرواح حيث استخرجهم واستشهدهم، فاتفقوا على الإقرار، ثم اختلفوا، في عالم الأشباح باتباع الهوى والأباطيل، أو ببعثة الرسل فتبعتهم طائفة وكفرت اخرى‏.‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقتْ من ربك‏}‏ في اللوح المحفوظ، بتأخير الحكم، أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنه يوم الفصل والجزاء، ‏{‏لقُضي بينهم‏}‏ عاجلاً ‏{‏فيما فيه يختلفون‏}‏ بإهلاك المُبْطِل وإبقاء المحق‏.‏

الإشارة‏:‏ اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء، أمر سبق به الحكم الأزلي لا محيد عنه، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يقول الحق جل جلاله‏:‏‏}‏ ‏{‏ويقولون‏}‏؛ يقول الكفار‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏؛ هلا ‏{‏أُنزلَ عليه آيةٌ‏}‏ ظاهرة ‏{‏من ربه‏}‏ تدل على صدقه، يعاينُها الناس كلها، فتلجئهم إلى الإيمان به، وهذا الأمر على هذا الوجه لم يكن لنبي قط، إنما كانت الآية تظهر معرّضة للنظر، فيهتدي بها قوم، ويكفر بها آخرون، ‏{‏فقلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إنما‏}‏ علم ‏{‏الغيب لله‏}‏ مختص به، فلم أَطََّلع عليه حتى أعلم وقت نزولها، ولعله علم ما في نزولها من الضرر لكم فصرفها عنكم، ‏{‏فانتظروا‏}‏ نزول ما اقترحتموه، ‏{‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ لذلك، وهذا وعد قد صدقه الله بنصرته عليه الصلاة والسلام وأخذهم ببدر وغيره، أو من المنتظرين لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات‏.‏

الإشارة‏:‏ ما زالت العامة تطلب من مشايخ التربية الكرامات، فجوابهم ما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قل إنما الغيب لله‏}‏ فانتظروا ما يظهر على أيديهم من الهداية والإرشاد، وإحياء البلاد والعباد بذكر الله، وهذا أعظم الكرامة، فإن إخراج الناس عن عوائدهم وعن دنياهم خارق للعادة، سيما في هذا الزمان الذي احتوت فيه الدنيا على القلوب، فلا ترى عالماً ولا صالحاً ولا منتسباً إلا وهو مغروق في بحر ظلماتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏جاءتها‏)‏ «إذا» وجملة ‏(‏دعوا‏)‏‏:‏ بدل من «ظنوا» بدل اشتمال؛ لأن دعاءهم من لوازم الظن‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا أذقنا الناسَ رحمةً‏}‏، كصحة وعافية وخصب، ‏{‏من بعد ضراءَ مَستْهم‏}‏، كمرض أو قحط ‏{‏إذا لهم مكرٌ في آياتنا‏}‏ بالطعن فيها، والاحتيال في دفعها، فقد قحط أهل مكة حتى أكلوا الجلود والميتة، ثم رحمهم بالغيث، فطعنوا في آياته بالتكذيب، وكادوا رسوله عليه الصلاة والسلام- ‏{‏قل اللهُ أسرعُ مكراً‏}‏ منكم، فقد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج يمهلهم؛ لأنه متيقن واقع لا محالة، وكل آت قريب‏.‏

‏{‏إنَّ رسلنا‏}‏ الحفظة ‏{‏يكتبون ما تمكرون‏}‏ فنجازيكم عليه‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ هو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما يدبرون في إخفائه لم يَخفْ على الحفظة فضلاً أن يخفى على الله‏.‏ وعن يعقوب‏:‏ «يمكرون» بالياء ليوافق ما قبله‏.‏ ه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ هذه الآية للكفار، وتتضمن النهي لمن كان كذلك عن غيرهم، والمكر هنا‏:‏ الطعن في آيات الله وترك شكره، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم، سماه مكراً مشاكلة لفعلهم، وتسمية للعقوبة باسم الذنب‏.‏ ه‏.‏

فنزول الرحمة بعد الشدة آية تدل على كمال قدرته‏.‏ وقد وَرَدَ أنه لما نزل بهم القحط التجأوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ يا محمد؛ إنك جئت تأمر بمكارم الأخلاق، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله يغيثنا، فدعا، فنزل عليهم الغيث، فكانت معجزة له عليه الصلاة والسلام‏.‏

ثم ذكر آية أخرى فقال‏:‏ ‏{‏هو الذي يُسيركم‏}‏ يقدرته ‏{‏في البَرِّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك‏}‏‏:‏ السفن، ‏{‏وجَرَيْنَ بهم‏}‏ بمن فيهم، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم، ففيه التفات‏.‏ ومقتضى القياس‏:‏ وجرين بكم ‏{‏بريح طيبةٍ‏}‏‏:‏ لينة الهبوب، ‏{‏وفَرحُوا بها‏}‏ لسهوله السير بها، ‏{‏جاءتها ريحٌ عاصفٌ‏}‏ أي‏:‏ شديد الهبوب، ‏{‏وجاءهم الموجُ من كل مكانٍ‏}‏ من كل جهة لهيجان البحر حينئذ، ‏{‏وظنوا أنهم أحيطَ بهم‏}‏ أي‏:‏ أهلكوا، أو سُدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط به العدو‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ركوب البحر وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه، وكذا لضرورة المعاش بالصيد ويتصرف للتجر، وأما ركوبه لطلب الدنيا والاستكثار فمكروه عند الأكثر‏.‏ قلت‏:‏ ما لم يكن لبلد تجري فيه أحكام الكفار على المسلمين وإلا حرم‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما ركوبه وقت ارتجاجه فممنوع، وفي الحديث‏:‏ «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برِئَتْ منه الذمة» وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البحر لا أركبه أبداً»

وعن علي كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ لولا هذا الآية، لضربت عنق من يركب البحر‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ إني لأعلم كلمات من قالهُن عند ركوب البحر وأصابه عطب فعليّ ديته، قيل‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ اللهم يا من له السماوات خاشعة، والأرضون السبع خاضعه، والجبال الراسية طائعة، أنت خير حفظاً وأنت أرحم الراحمين، ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ صلى الله على محمد النبي المصطفى، وعلى أهل بيته، وأزواجه وذريته، وعلى جميع النبيين والمرسلين، والملائكة المقربين، ‏{‏وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏‏.‏ قال بعض الفضلاء‏:‏ جربته فصح‏.‏ ه‏.‏

ثم قال تعالى في وصف الكفار عند إحاطة البحر بهم‏:‏ ‏{‏دعوا الله مخلصين له الدين‏}‏ من غير إشراك؛ لتراجع الفطرة، وزوال المعارض من شدة الخوف، قائلين‏:‏ ‏{‏لئن أنجيتنا من هذه‏}‏ الشدة ‏{‏لنكونن من الشاكرين‏}‏، ‏{‏فلما أنجاهم‏}‏ إجابة لدعائهم ‏{‏إذ هم يبغون في الأرض‏}‏ بالكفر والمعاصي، ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي‏:‏ سارعوا إلى ما كانوا عليه من البغي والفساد في الأرض بغير حق، واحترز بقوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ عن تخريب المسلمين ديار الكفرة، وإحراق زروعهم، وقلع أشجارهم، فإنها إفساد بحق‏.‏ قاله البيضاوي‏:‏ قلت‏:‏ وفي كونه بغياً نظر، والأظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ تأكيد لا مفهوم له‏.‏

‏{‏يا أيها الناس إنما بَغْيُكم على أنفسكم‏}‏ فإن وباله عائد عليكم، أو على أبناء حنسكم، وذلك ‏{‏متاع الحياة الدنيا‏}‏ تتمتعون به ساعة، ‏{‏ثم إلينا مرجعكم‏}‏ في القيامة ‏{‏فنُنبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ بالجزاء عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذا أذقنا الناس حلاوة المعرفة والعلم، بعد ضرر الجهل والغفلة، إذا لهم مكر في آياتنا وهم الأولياء والمشايخ، الذين فتح الله بسببهم عليهم بالطعن عليهم والانتقال عنهم، كما يفعله بعض المريدين، أو جُلُّ طلبة العلم، بنسيان مشايخهم ونسيان العهد إليهم، قل الله أسرع مكراً بهم، فيريهم أن الأمداد باقية، تجري عليهم استدراجاً، ثم يحبس ذلك عنهم فتيبس أشجار معانيهم، وتظلم قلوبهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يُسيركم‏}‏ إليه في بر الشريعة، وبحر الحقيقة، فيقع السير بينهما، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد في حقيقته، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته، هكذا حتى تعتدلا، فتكمل تربيته، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم في تيار البحار، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد، وجرت أفكارهم في عالم الملكوت بريح طيبة وهي ريح السلوك جاءتها ريح عاصف، وهي الواردات الإلهية، تأتي من حضرة القهار، لا تصادم شيئاً إلا دمغته، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب او المحْو؛ دََعوا الله مخلصين له الدين، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة، فبغوا عليها كما بغت عليهم في أيام غفلتهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏